يقضي سائق الشاحنات الباكستاني من الوقت مع شاحنته أكثر مما يقضيه مع زوجته وهو الأمر الذي يفسر لماذا قد يرغب في أن تبدو شاحنته التي تزن عشرة أطنان وتتنقل على ستة عجلات مثل عروس بهية في ليلة زفافها.
أصحاب شاحنات فى باكستان يبالغون فى زخرفتها وتلوينها من الجهات الأربع لتخطف الأنظار وتحوز إعجاب الجميع الأمر الذى يجعلها حالة نادرة الوجود حول العالم تميز هذه الدولة الآسيوية، وهذه اللوحات الفنية المتحركة تستغرق أشهر لإنجازها إذ تظل فى ورش مدن "تشنيوت" و"راولبندى" و"كراتشى" المشهورة بهذا العمل لأكثر من 3 أشهر تحت أيدى فنانى تلوين عربات النقل.
تتميز هذه الشاحنات التي تعج بها الطرق الوطنية الباكستانية وكذلك طرق البلدان المجاورة كأفغانستان بكونها منمقة ومزينة بطرق مبالغ فيها فالشاحنة كلها من أعلاها إلى أسفلها عبارة عن مهرجان ألوان حقيقي مزينة بألواح مرسومة بطريقة معقدة تتضمن فسيفساءات لمختلف أنواع الطيور والورود والأزهار والمناظر الطبيعية والقديسين والممثلات كل مرسوم وملون بألوان فاقعة مشبعة من الخارج بينما يتم تزيين الشاحنة من الداخل بواسطة أزهار بلاستيكية وخرزات مكسوة ومرايات متعددة.
شاحنات الجلجلة الباكستانية |
يتم تزيين قمرة القيادة من الخارج بواسطة هيكل يحاكي مقدمة السفن يصنع من الخشب بطريقة خاصة ومميزة يوضع فوق قمرة القيادة وتزينه أعمال فنية زاهية، بينما تتدلى صفوف من الأجراس المعدنية من هيكل الشاحنة وتلتف حولها وعندما تتحرك الشاحنة تهتز هذه الأجراس وتحتك ببعضها مصدرة جلجلة -رنينا- كأنه صوت طائر بدأ الزقزقة حديثا، وهو ما جعل هذه الشاحنات تكتسب لقبها الشهير Jingle Trucks أو شاحنات الجلجلة الذي أطلقه عليها الجنود الأمريكيون في أفغانستان.
ولا يقتصر الأمر على الشاحنات وحدها حيث يتعداها ليشمل كلا من حافلات نقل المسافرين والصهاريج وعربات النقل والـ(ركاشات) -عربات نقل هندية- وحتى عربات التسوق في المتاجر فقد أصبح تزيين هذه العربات بكل هذه الألوان الزاهية والمبهرجة عبارة عن فن شعبي يتنقل على العجلات أو معرضا فنيا وطنيا بدون جدران في حركة مستمرة.
يكلف تزيين الشاحنات على الطريقة الباكستانية سائقيها ثروة معتبرة بالنسبة لدخولهم المتواضعة حيث تبلغ تكاليف عملية تزيين شاحنة ما قيمته دخل عام كامل من أجر السائق أو أكثر، فقد تناول تقرير نشر في سنة 2005 الموضوع مبينا أن العملية آنذاك كانت تكلف سائق الشاحنة 2500 دولار وهو المبلغ الذي يساوي أرباح عامين كاملين من العمل بالنسبة لسائق الشاحنة العادي.
ينفق بعض هؤلاء السائقين مبالغ تصل إلى عشرة آلاف دولار من أجل التزيين المبالغ فيه وما قد يزيدك إستغرابا هو أن الكثير من سائقي هذه الشاحنات يعودون إلى ورشات التعديل والتزيين مرة كل ثلاثة أو أربعة سنوات من أجل إعادة تعديلها وتزيينها بشكل كامل!
تقول (دوريا كازي) رئيسة قسم الدراسات البصرية في جامعة (كاراتشي): لا ينفق سائقوا الشاحنات هذا القدر من المال حتى على عائلاتهم ، وأضافت: أتذكر مرة قال لي فيها أحد هؤلاء السائقين كيف أنه يدين بحياته كلها لشاحنته ويضعها فيها، فإن لم يقم بتكريمها بعملية الطلاء والتزيين اللائقة فإنه قد يشعر بالتقصير وعدم الإمتنان تجاهها .
أضف إلى ذلك أن شاحنة مزينة ومهيأة بشكل لائق تعطي الزبائن إنطباعا بأنه يتم الإعتناء بها بشكل جيد ومنه يمكن الإعتماد عليها وعلى سائقها في توصيل البضاعة إلى وجهتها بأمان.
أصبحت علمية تعديل الشاحنات وطلائها وتزيينها مع مرور الوقت تجارة ضخمة قائمة بذاتها ففي مدينة (كاراتشي) وحدها يعمل في هذا الميدان -غير المقنن بعد والمربح جدا- حوالي خمسون ألف مواطن، كما أن حظائر الشاحنات المتوزعة في المدينة تعج، وهم بذلك صاروا يعيدون ويكررون نفس الأنماط القديمة والصور والأيقونات مرارا وتكرارا لكن بفضل الفنانين على شاكلة (حيدر علي) الذي زين شاحنة (فورد) على الطريقة الباكستانية في (باسادينا) بولاية (كاليفورنيا) الأمريكية أصبح الكثيرون خارج باكستان يعلمون بأمر هذا الفن الشعبي الباكستاني ومنه فإن إحتمال ركوده أو حتى موته يبقى إحتمالا بعيدا على الأقل في الأزمنة القليلة القادمة.
ووفقا لما نقلته "العين الإخبارية" عن موقع "باكستان نيوز" يتكلف تلوين الشاحنة الواحدة نحو 6000 دولار أمريكى وهو مبلغ ليس باليسير فى باكستان لكن النتيجة النهائية تستحق ، ويتخذ رسامو الشاحنات مصدر رسوماتهم من المناظر الطبيعية الخلابة فى وادى سوات الباكستانية والمناطق الشمالية وكذا الطرق الجبلية الوعرة وما يتخللها من وديان وغابات وقرى مترامية على طول الطريق حتى أفغانستان وكذا النساء المحجبات والأبطال السياسيون ونجوم السينما.
كما تحتل رسوم الطيور الجارحة مثل النسر والصقر والحيوانات المفترسة كالأسد والنمر مكانة خاصة فى هذا الفن كإشارة إلى القوة والسرعة والمنافسة على الطرقات فيما يحرص البعض الآخر على رسم الكعبة المشرفة والمسجد النبوى طلبا للبركة.
يقول التقرير أن الباكستانيون يعرفون صاحب الشاحنة قبل الإطلاع على لوحة أرقامها والفضل فى ذلك يرجع للرسومات والنقوش التى تغطيها فشاحنات إقليم خيبربختونخوا الواقعة شمال غرب باكستان عليها صورة إمرأة مجنحة بجسد حصان أما شاحنات إقليم البنجاب فتتميز بوضع رسومات لفنانات هذا الإقليم بينما تتميز شاحنات إقليم بلوشستان بطغيان صور الزى التقليدى الخاص بهذا الإقليم ومواقعه الأثرية وتغطى شاحنات إقليم السند رسومات لنساء سنديات بلباسهن التقليدى متزينات بحليهن المحلية.
وحسب الموقع الباكستانى يبلغ عدد الشاحنات المزخرفة فى هذه الدولة أكثر من مليون شاحنة جميعها مزينة حسب مدرسة الزخرفة التى تم العمل فيها فيما تلحم سلاسل حديدية مختلفة الأشكال بأجزاء الشاحنة السفلية حيث تكون عرضة لضربات الهواء وهو ما يحدث أصواتا عالية جدا عند تحركها وكأن طائرة تحلق قرب المكان.
الشاحنات المزينة والمبهرجة فى باكستان الفن الشعبى والشعر المتنقل |
كما يحتل الشعر أولوية كبيرة عند معظم أصحاب الشاحنات الذين يتسابقون فى التدافع نحو الخطاطين المهرة بعد إنتهاء مرحلة الزخرفة ليخطوا لهم أبياتا وحكما مشهورة ما يجعل من الشاحنة مرآة تعكس ثقافة المجتمع الباكستانى أينما تنقلت.
والملفت للنظر ما يقرأ على هذه الشاحنات من أقوال غريبة غير معروفة المصدر تتحدث عن علاقة هذه الشاحنات وسائقها بالموت على الطرقات ومن هذه الأقوال "لا تقع فى حبنا نحن السائقين فنحن غالبا ما نرحل بسرعة"، و"الموت أفضل من حياة تعيسة على الأقل بإمكانك الحصول على نوم عميق"، وغيرها كثير من العبارات.
الشاحنات الطائرة كما يسميها الباكستانيون تحمل فى العادة ثلاثة أضعاف حمولتها الرسمية ويساعد تصميم جسمها الفريد على ذلك إذ يستغل الحيز الموجود فوق مقصورة السائق كمساحة إضافية وتعمل هذه الشاحنات المزودة بقوة دفع أمامية وخلفية فى كل مكان حتى فوق جبال "جلجت" شمال البلاد القريبة من جبال الهملايا.
وبسبب قدرة هذا النوع من الشاحنات على تخطى المناطق الجبلية وهى سمة جغرافية عامة فى باكستان فإنها تلعب دورا حيويا فى خدمة الإقتصاد الباكستانى عبر نقل البضائع على المستوى المحلى من جهة والخارجى مع أفغانستان والصين من جهة أخرى أما الولع الظاهر فى زخرفة الشاحنات فى باكستان لم يجعلها من أهم عناصر الغرابة فى البلاد وحسب بل وفر أيضا فرص عمل لآلاف الباكستانيين وجعل من محلات زينة المركبات تجارة رابحة فى طول البلاد وعرضها.
إقرأ أيضا :